في كل المعارك والمعادلات الصفرية، يصبح الصفر هو القيمة والنتيجة الوحيدة لكلِّ شيء فلا ثمن للدماء التي تسيل بغزارة على الإسفلت، ولا ثمن أو حتى حُرمة للموت نفسه ...
ففي جمعة ماضية (28 مارس)، بعد أن بادرتنا مواقع الإعلام الاجتماعي بصورة لفتاة في مقتبل عمرها كان نصيبها من يوم لها أنه كان آخر يوم لها حينما اخترقت رصاصة وجهها وخرجت فماتت، وجدنا بعدها هذا ينشر صورتها وهي غارقة في دمائها وذاك ينشر فيديو حصري لحظة خروج روحها ... وهؤلاء يشمتون في موتها لأنها (انقلابية) وأولئك يحشرون الإخوان في أي وقائع ليثبتوا أنهم (قتلتها)، ولا يهم أنها صارت جثة المهم أن يزايد بها طرف ويجعلها كُرة يركلها بقوته ليهُز بها شِباك الطرف الآخر لعله يلقي به مرة خارج الملعب ...
لم يهمني وقتها على الإطلاق من قتلها لأن الرؤية جلية رغم عتمة الأيام ولم يهمني لحظتها أيضاً كونها طبيبة أو طالبة أو صحفية أو حتى عاملة نظافة طالما صرنا أمام نتيجة يومية واحدة ‹‹الموت›› فأمامه الكل سواء. لكن هذا لا يعني إطلاقاً السكوت عن المسكوت أصلًا عنه، لأن ميادة ببساطة (حية كانت أو ميتة) جزء من قضية مهمة وهي وضع الصحفيين في مصر (تحديدًا الشباب منهم) ولأن كثيرين ممن امتطوا جثة ميادة للوصول إلى هدف ونكاية في طرف هم عنصر أصيل في قتل مستقبل الصحفيين ...
***
لقضية الصحافة والصحفيين في مصر زوايا عدة مهمة وجديرة بالنقاش والحل، منها الموجود دائماً تحت الأضواء وفوق موائد المناقشات للتفعيل أو للتجميل من إطلاق سراح المعلومات والحريات مروراً بمجلس وطني للإعلام وإلغاء الوزارة وحتى تفعيل ميثاق الشرف الإعلامي، ومنها ما ظل كثيراً بمعزل عن أي اجتماع أو نقاش كمسألة وضع الصحفيين المصريين.
على أرض الصحفيين ما يستحق الحكي ... وما يستحق أن نسمع عنه وعنهم منهم ...
‹‹هحكيلكم حكاية الصحفيين ... بنتبهدل ويتمسح بينا الأرض وكل من هبّ ودبّ بيتحكم فينا. بنستحمل الذل علشان سراب اسمه عضوية نقابة الصحفيين .. بنشتغل زى الحميير ومش بناخد فلوس .. أنا واحد من الناس كنت بمشي من المكان اللي كنت ساكن فيه فى أوضة تحت السلم فى منطقة لايسكنها الحيوانات وكنت بصوم مش علشان أنا مؤمن قوي بس علشان أوقات كتير مكنش بيبقى معايا فلوس ..بنضرب فى الشوارع .. بنتقتل ونترمى على الأرصفة .. بنتهان من الشرطة .. وبعد سنين طويلة ناس بتتعين فى مؤسساتها وتدخل النقابة .. وتفتكر أن الدنيا بدأت تضحكلها .. لكن هيهات .. يطلعلك واحد .. لو سألته عن جده التالت مش هيرد عليك يضربك طلقة وتموت ..يحصل إيه بقى الجرنال بتاعك يتاجر بدمك .. نقيب الصحفيين يطلع فى كل الفضائيات .. زمايلنا يفضلوا يعيطوا على صفحات الفيس .. أهلك ياخدوك يدفنوك .. وبعد يومين لو سألوا عليك محدش هيعرف اسمك.›› (من حساب عمرو الديب رئيس القسم الميداني بـvetogate على الفيسبوك)
على الرغم من أنهم أبناء ما كانت تُسمى بـ‹‹سلطة رابعة››، لكن لا مزية لهم على صعيد الأمن والتأمين. فكان حصادهم في السنوات الثلاث الأخيرة (28 يناير2011 – 28 مارس2014) مقتل عشرة صحفيين (أجنبي وتسعة مصريين) وعشرات المصابين والمعتقلين لتحتل مصر بذلك المرتبة الثالثة بين أخطر البلدان على الصحفيين في عام 2013 بعد سوريا والعراق وذلك وفقا للجنة حماية الصحفيين (!)
((Committee to Protect Journalists – Defending Journalists Worldwide
ومن مشهد خارجي إلى مشهد داخلي يومي في أية مؤسسة صحفية أو أي موقع إخباري، ستجد عشرات الصحفيين الشبان، يشبهون كل الشباب المصري في كل مكان ومجال ... يبدأ كل منهم كمحرر تحت التدريب بلا أجر ... ربما يكون حديث التخرج قاهري أو وافد من محافظة وربما يكون طالباً ... أول ما تفعله المؤسسة أو جهة العمل هو الزج به لتغطية حدث في موقع قد يكون مشتعلًا ...
وبعد اجتياز فترة تدريبية يثبت فيها مستميتاً كفاءته وربما يموت قبل أن يثبتها، فلكل صحفي أو محرر حظ ونصيب، منهم من يعمل بعد التدريب بمبلغ لا يزيد عن 300 أو 400 جنيه شهرياً ومنهم من يعمل بالقطعة ومنهم سعيد الحظ الذي قد ينال عقد عمل شهرياً قيمته ألف جنيه أو يزيد قليلا ً...
وقد تجد رئيس تحرير يركن عقدك الذي قد يؤهلك للنقابة على جنب وكلما مرت المؤسسة بضائقة مادية يقص من راتبك الذي لا يساوي واحداً على مئة من راتبه ليسد بعضاً من العجز المادي الذي لا دخل لك فيه ...
وينتقل بعدها لحلم النقابة الذي لا ينقطع، لكنها محاولة مستمرة للوصال من طرف واحد، تحاول النقابة (عمداً وإهمالاً) القضاء عليه، بدءاً من عدم الاعتراف بمئات المحررين والصحفيين من المواقع الإلكترونية مروراً بإهمال تدريبهم وتأهيلهم وحتى التخاذل في الضغط أو السعي للتحقيق في حوادث قتلهم أو اعتقالهم أو إصابتهم.
لكن يبقى دائماً لكل قاعدة استثناء واستثناء النقابة هو إخلاص وكد وجد خالد البلشي وعبير السعدي.
***
ورغماً مما يحمله واقع الصحفيين من صعوبات وآلام إلا أن هناك صورة نمطية خيالية عنهم تقول ‹‹إن الصحفيين هم أكثر المرتاحين مادياً ومهنياً في مصر، لأن منهم من يعمل بمؤسسات لكبار رجال الأعمال ومنهم بمؤسسات صحفية حكومية عريقة ومنهم أصحاب أجندات وممولين ومتآمرين. ويشترك في الرأي الأخير عموم المواطنين المناصرون دائماً للدولة وأجهزتها والمسؤولون وتحديداً قوات الأمن طالما أن أي خبر منشور لا يروق لهم أو سار عكس اتجاه قافلتهم.
وللرأي الأخير هذا رد فعل وتصرف شعبي/حكومي أو بالأحرى أمني معروف، ينال نصيبه منه كل مواطن صحفي يحمل كاميرا أو تليفوناً يصور في الشارع أو ربما دفعه التهور ليجري حواراً مع مواطن آخر، وقتها تجد التكاتف والتلاحم على كونشرتو تسلم الأيادي بين الشعب والأمن، لا يهم من يدخل أولاً أو من يشارك أكثر أو من يعزف منفرداً المهم النيل من الكاميرا وصاحبها وأحيانًا التحفظ عليهما.››
وأرشيف هذه الوقائع الملحمية حافل بعشرات القصص والحالات وكان آخرها ما حكاه أسلم مراسل MBC مصر في نوفمبر 2013 من تعذيب له في قسم شرطة المنيا بعد التحفظ عليه من مكان تغطيته لحادث هناك واقتياده لقسم المنيا ومن بعده بشهرين روتْ لنا آلاء سعد صحفية بجريدة الشروق حادثتها:
‹‹قررت الاقتراب من جرافيتي سور الجامعة الأمريكية والتقطت صورتين، لم تمض ثوانٍ معدودة لأجد إحدى أفراد الشرطة النسائية تمسك بملابسي وتحاول إحضاري لسيارة الشرطة وبدأت مرحلة جديدة من الضرب المُبرح خاصة بالوجه، الأمر الذي أدى إلى نزع حجاب الرأس الذي أرتديه، والإصابة بكدمة قوية بالفم وجرح سطحي أسفل العين اليمنى وآخر بجانب العين اليسرى. كان يقف على بعد مِتر ما لا يقل عن 15 فرداً من رجال الأمن، وكان تدخلهم الوحيد منع أي شخص من التدخل لفض التعدّي. ثوان معدودة أخرى مرّت لأدخل في مرحلة جديدة، انضمت فيها سيدات أتين للمشاركة في الضرب والسب بألفاظ تستدعي المحاسبة القانوينة ...››
***
وبعد ...
إن كانوا يقولون في المثل الشعبي المصري الضرب في الميت حرام فبالتأكيد الضرب في الحي حتى يموت أو ليموت ليس حلالًا ...
ليس الصحفيون بملائكة ولكنهم أيضاً ليسوا بأبالسة، هم بشر عاديون يخطئون ويصيبون ... ليس دورهم إراحة الزبون بل حمل الرسالة وتوصيلها مهما كانت الظروف وأينما كانت من صانعها ومصطنعها إلى مستقبلها أينما كان ...
لا يريدون تمجيداً أو تعظيماً بل يريدون حقاً وأمانا إن أردنا أن تصل الرسالة ...
***
روابط ذات صلة
تقرير قتل حامل الرسالة (عن وضع الصحفيين بسوريا)
قصة آلاء سعد: كنت ماشية جنب الحيط.. فانهار علي رأسي– هكذا ضربتني الشرطة النسائية والمواطنون الشرفاء
مراسل إم بي سي ضحية التعذيب لـ«الضابط»: «أبوس رجلك اتعلمت الدرس».. ولست صاحب فيديو رصد
(Committee to Protect Journalists – Defending Journalists Worldwide) لجنة حماية الصحفيين